لماذا أنا مغربي أقف إلى جانب الشعب الصحراوي
بقلم: نادر بوحموش
كان أول تعرف لي على النزاع الصحراوي المغربي واحدة من أولى الذكريات و أكثرها لفتا للانتباه في حياتي. ثلاث سنوات فقط مرت على وقف إطلاق النار، حينها كنت أبلغ من العمر أربع سنوات، كنت برفقة أمي و جدي و جدتي لقضاء العطلة في مرزوكة، المدينة الصحراوية الصغيرة التي تقع جنوب شرق المغرب على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الجزائرية. خلال إقامتنا بمرزوكة أرادت أمي التي تهوى المغامرة أن تتجول في الصحراء. كان ذلك اليوم الذي اتجهنا فيه عن طريق الخطأ إلى الجزائر، حيث أتذكر رؤية رجل يرتدي عمامة على ظهر خيل يحمل بندقية على كتفه. وفقا لأمي، فقد قال لنا دليلنا أن الرجل على ظهر الحصان من البوليساريو. حينها بدأت بالبكاء ثم ركبنا السيارة و رجعنا أدراجنا.
أصبحت هذه الذكرى أكثر أهمية عندما كبرت، لأنها كانت الصورة التي تنسجم تماما مع ما يقوله لي التلفزيون الوطني المغربي، والكتب المدرسية، والمجتمع. حتى أن الرجل ذو العمامة والذي يحمل بندقية على ظهر خيل أصبح بالنسبة لي تجسيد لعدو بلدي وأصبحت كلمة “البوليساريو” مرادفة لعبارة “خائن”، “قاتل”، “جاسوس” و”إرهابي”.
على شاشة التلفزيون، لم يكن هناك نقاش حول حقيقة أن الصحراء الغربية لنا، و كنا نتحدث عنها كما لو أننا نتحدث عن حقيقة أن الأرض تدور حول الشمس. قيل لنا أنهم المحرضين الجزائريين من كانوا يحاولون مساعدة بعض الإرهابيين على الحصول على هذه الأرض لكي بحيث يمكن للجزائر أن تبني منفذ إلى المحيط الأطلسي مرورا بالصحراء الغربية. أخبرنا التلفزيون أنها مؤامرة كانت تحاك ضد الشعب المغربي. صدقت أنا ذلك.
أصبح يوم المسيرة الخضراء عطلتي المفضلة. عندما كنت طفلا أحببت هذا اليوم كعطلة لسببين. أولا، لأنه كان أقرب عطلة وطنية لعيد ميلادي. ثانيا، بسبب الصور الجميلة والسلمية والوطنية للمسيرة الخضراء. أصبح مشهد الآلاف من المغاربة وهم يسيرون في الصحراء حاملين الأعلام و صور الملك صورة رومانسية بالنسبة لي كما هي لكثير من المغاربة.
عندما كنت طفلا، أحببت أيضا الخرائط. أردت أن أكون رسام خرائط في مرحلة ما من طفولتي، لذلك اشترت لي أمي خريطة المغرب كهدية. لقد كانت واحدة من خرائط الطريق المفصلة و الكبيرة، درست كل تفصيل فيها و أندهشت عندما رأيت إحدى المدن و القرى العديدة التي كنت قد زرتها برفقة أمي شبه المستكشفة، رسمت عليها دائرة بالقلم. ظهرت الخريطة غير مقسمة على طول الطريق إلى لكويرة وقتها أدركت العبارة الشهيرة التي تتكرر على أسماعنا كل ليلة على أخبار التلفزيون الحكومي: “من طنجة لــــ لكويرة”. لطالما كان الراوي المروج هو الذي يهتف لها، متبعا إياها ببيان حول كيف أن إحدى أنشطة الملك اليومية قد حسنت حياة الشعب المغربي “من طنجة لــ لكويرة”.
سيطر علي مفهوم “من طنجة لـــ لكويرة لدرجة أنني أردت أن أخبر للناس أنني زرت كل ركن من أركان المغرب “من طنجة لــ لكويرة”. و هكذا أوضحت ذلك لأمي التي قررت أن تأخذ أختي الصغيرة و أنا في رحلة على الطرق عبر الصحراء الغربية إلى غاية لكويرة. و بينما نحن نتجاوز طرفاية أين ينبغي للحدود أن تتواجد، أصبح السير سلس: لا وجود لنقاط تفتيش عسكرية، و لا شرطة و لا أي شيء. عندها لم يكن هناك شك في ذهني أننا نقود عبر المغرب. ونحن نقترب من العيون، بدأنا نرى الثكنات العسكرية والأبراج. لم أكن أخمن في أي شيء من ذلك.
في بوجدور، رأينا المزيد من المنشات العسكرية، حتى أن جندي مغربي سمح لي بأن أتظاهر أنني أقود إحدى سيارات الجيب الخضراء التابعة للجيش. فور وصولنا للداخلة، بدأنا نرى سيارات دفع رباعي بيضاء تحمل عليها الحرفين “يو أن”. لم أستوعب تمام ما يحدث لكن كل شيء لا يزال طبيعيا.
لقد كان حتى مررنا بالداخلة في طريقنا إلى محطتنا الأخيرة لكويرة حيث بدأت الطريق تبدو أقل سلاسة، بدأت تظهر القيود و حينها أدركنا أن الأمور لم تعد على ما يرام. استوقفنا الجيش المغربي و أمرنا بالعودة أدراجنا محتجا بأنه لم يبقى سوى حقول الألغام في الطريق بين الداخلة و لكويرة. لم استطع تحقيق حلمي بالذهاب من “طنجة لـــ لكويرة”. لم أدرك حينها أن ذلك كان حلما لم و لن يتحقق قط لأنه يستند على الأكاذيب. استغرق الأمر سنوات بالنسبة لي لكي استوعب ذلك.
و حينما كبرت و بدأت أقرأ و أفهم الأشياء، أصبحت منشغلا بأولئك الذين كانوا أقل حظ مني. بدأت أرافع عن حقوق الفلسطيين في بادئ الأمر، بعدها أيقنت أن أغلب المغاربة كانوا أيضا ضحية شكل مختلف من الاضطهاد. لم أمن متأكدا في بادئ الأمر من المسئول عن كل هذه المكعاناة، إلا أن الشيء الوحيد الذي كنت متأكدا منه أنه لربما لن يكون ذلك الملك الرائع الذي دائما ما كنت أراه يوميا يقوم بأعمال خيرية على شاشات التلفزيون.
عندما ذهبت لدراسة الإخراج و الإنتاج السينمائي بكلية في ولاية كاليفورنيا، ذهبت بفكرة أنني سوف أعد أفلاما عن أولئك الذين لا صوات لهم. لكنني لم أكتشف من يسكت أولئك الذين لا صوت لهم، حتى سلب مني صوتي و كاميرتي بمطار فاس عندما كنت أقوم بزيارة صيفية إلى المغرب. لم أن أنوي أن أستهدف النظام حينها. و لكن يعد مصادرة الكاميرا الخاصة بي، أصبحت أعلم حق اليقين من كان وراء ذلك. لقد كان المخزن، النظام المغربي. بعد أقل من عام، اجتاحت المغرب موجة من الاحتجاجات في ما يعرف بــ “الربيع” العربي. حينها أصبحت معنيا، رأيت و سمعت مباشرة عن عمليات القمع و الاعتقالات و أساليب السرية للقصر، و التي بدأت شيئا فشيئا تستفز استيائي.
هذا أدى إلى طرح المزيد من الأسئلة: هل أن كل ما تعلمته كان غير صحيح؟ هل أن معرفتي بالتاريخ المغربي هي معرفة على الإطلاق ؟ ما هي الدعاية الأخرى التي تمت تغذيتي بها ؟ و ذلك عندما بدأت مسألة الصحراوية تتنامى. حينها بدأت بالنظر إليها و أدركت ببطء أنني كنت على خطأ طوال حياتي، هذا يعني إذا أنني كنت في الضفة الخطأ من التاريخ. بعدها أدركت أن الصحراويين هم شعب مضطهد و محتل، تقريبا على شاكلة الفلسطينيين. إن الجيش المغربي هو قوات الدفاع الإسرائيلية بالصحراء الغربية، و المسيرة الخضراء هي هجرة المغاربة إلى الصحراء الغربية، قام ذهني يمزج العلم الفلسطيني مع النجمة و الهلال في العلم الصحراوي: تكون علم أخر في ذهني يرمز للمقاومة. و أصبحت قضايا الشعب الصحراوي و التبتي و الفلسطيني متشابهة في رأيي.
لكن مثل هذا الرأي كان يعد أمرا خطيرا بالنسبة لديمقراطية المغرب المزيفة. لذلك استمريت في هدوئي. لأن تداعيات أن تجهر بصوتك وخيمة، بل إنها تعد من المحرمات. حتى أصبحت الرقابة الذاتية طريقة في الحياة. ففي كل مرة يحدث فيها شيء عن الصحراء الغربية إلا و ألتزم الهدوء. كناشط حقوقي، يعد هذا الأمر خطأ و لا يتناسق ع معتقداتي. أصبحت منافق: فبينما أطالب الإسرائيليين أن يجهروا بصوتهم إلى جانب الفلسطينيين، أظل هادئ فيما يخص الصحراء الغربية. حينها وجدت نفسي مجبرا على الحديث عنها، لكن لم أستطع حمل نفسي على فعل ذلك.
و كانت لي الفرصة عندما بدأت أقترب من المنظمين لمهرجان السينما “في صحراء”، حينها أتيحت لي فرصة و إطار دولي أستطيع من خلاله أن أعبر علنا عن أرائي الحقيقية. شعرت ببعض الأمان و أنا أعبر عن رأيي علنا لأنني سوف أعبر عنه من خلال هذا المهرجان المعروف و الذي يحظى بمتابعة الكثير من الأشخاص عبر العالم. فطالما أن العالم يراقبني أدلي برأيي، طالما أنني أعظم من إمكانية حدوث الصورة الديمقراطية للمغرب التي يحاول المخزن خلقها، لذلك فأنا بأمان.
و كانت لي الفرصة عندما بدأت أقترب من المنظمين لمهرجان السينما “في صحراء”، حينها أتيحت لي فرصة و إطار دولي أستطيع من خلاله أن أعبر علنا عن أرائي الحقيقية. شعرت ببعض الأمان و أنا أعبر عن رأيي علنا لأنني سوف أعبر عنه من خلال هذا المهرجان المعروف و الذي يحظى بمتابعة الكثير من الأشخاص عبر العالم. فطالما أن العالم يراقبني أدلي برأيي، طالما أنني أعظم من إمكانية حدوث الصورة الديمقراطية للمغرب التي يحاول المخزن خلقها، لذلك فأنا بأمان.
لقد أدركت أن أغلب المغاربة سوف يحتقرني لأرائي، لكنني أعتقد أن شخصا ما عليه أن يبدأ نقاشا صادقا حول هذه القضية داخل المغرب. إن الوقوف على الضفة الصحيحة من التاريخ دائما ما يكون مؤلما خاصة لأولئك الذين يفعلون ذلك أولا، و لكن في النهاية سوف تنتشر الأفكار و تعم الأسباب و التعاطف. أولئك الذين يقفون في طريق العدالة سوف يبدون على نحو متزايد كما لو أنهم أصوليين، مثل المتعصبين و في النهاية الأمر مجرمين.
لقد بدأت بالفعل أشعر بتداعيات قراري و أنا مهاجم “لتعاطفي مع العدو” و لكوني “موالي للبوليساريو”. و مرد هذه الهجمات التي لا أساس لها هي فكرة دعمي لكيان عسكري و سياسي معين. إلى حد الساعة، لم أبدي شيء. و حضوري في المهرجان هو تعبير عن التضامن مع الشعب الصحراوي، ليس مع البوليساريو. لا يمكنني قط أن أتفق مع أي كيان كان قد استعمل أو يستعمل العنف كوسيلة للمقاومة. حضوري بالمهرجان سوف يعطي للصحراويين وجها للتواصل مع جانب من المغرب لم يروه قط، و لإعطائهم أمل، و تشجيعهم على الحفاظ على سجلهم الخارق و المثير للدهشة في عدم ارتكاب أعمال إرهابية في حق المدنيين المغاربة. هو حالة شاذة في تاريخ الشعوب المضطهدة. فالفلسطينيين مارسوا الإرهاب، و الايرلنديين مارسوا الإرهاب و الباسكيين مارسوه هم كذلك، بينما الصحراويون لم يمارسوه و لذلك فعلى المغاربة أن يدركوا كم نحن محظوظون لعدم وقوعنا ضحية هذا الشكل البشع من المقاومة. حضوري في المهرجان يعطينا كمغاربة صفة الإنسانية في عيون الصحراويين، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة لتبرير مقاومة عنيفة. فوجودي يخبر الصحراويين بأن هناك مغاربة على شاكلتي لا يستطيعون مجرد الكلام.
ضعونا كمغاربة لا ننسى لماذا نحن نتواجد في الصحراء الغربية في المقام الأول: لأن الملك الحسن الثاني كان يواجه مقاومة سياسية هائلة من تيار اليسار و احتاج لكسب شعبية و دعم من الشعب المغربي. ضعونا لا ننسى المشاكل الاقتصادية التي نجمت عن الحرب مع البوليساريو و النفقات العسكرية اللازمة للإبقاء على هذا الاحتلال غير الشرعي. لقد عانى المغاربة من هذا الاحتلال أكثر من ما كسب.
و في الختام، لطالما أجببت بلدي. إذا كان بإمكانك تحديد الحب، أستطيع أن أقول بيقين أنني أحب المغرب بقدر ما كنت أفعل قبلا. و الأمر الوحيد الذي تغير هو نوعية و طبيعة حبي الذي تحول: توقفت عن حب فكرة المغرب التي قدمت لي من قبل الدولة. هذه الفكرة و التي صنعها المخزن لغرض الحفاظ على الدولة القومية العصرية ما بعد الاستعمار، و التي تحتوي على “حزمة من المغاربة” فإذا رفضت شيئا من تلك الحزمة، تنبذ على الفور، و يطلق فورا عليك “خائن” و معادي للمغرب. أهم مكونات الحزمة هي الإيمان بالملكية، الإيمان بالله، الإيمان بالموروث العربي كالأبرز و السائد، و أخيرا الإيمان بمغربية الصحراء. أنا أرفض كل واحدة من هاته. فأنا يمكنني أن أكون مغربي في حين أرفض الملكية، و يمكنني أن أكون مغربي فيما أرفض التراث العربي و أحتضن التراث الأمازيغي، كما يمكنني أن أكون مغربي و أرفض فكرة أن الصحراء الغربية تنتمي للمغرب. من خلال رفضي لكل هذه الأشياء، أقول أنني لا أحب “حزمة” المخزن و لكن بدل ذلك أنا أحب الشعوب، الأرض و الثقافات المتعددة تشكل بلدي.
No comments:
Post a Comment