الشمال المغربي وكْرُ إرهاب أم ضحية سيناريو خبيث للأجهزة الأمنية؟
مصطفى حيران 05-03-2008
وضعت التقارير الأمنية مدينة الناضور على رأس ما أصبح يُسمى بخلية "بلعيرج الإرهابية".. وكان مثيرا للإنتباه، إن لم نقل للاستغراب، أن صحفنا اليومية والأسبوعية، لم تكلف أنفسها وصحافييها "عناء نقل معطيات عيانية من عين المكان" ونقصد بالتحديد، جماعتي بني سيدل وبني شيكر، فضلا عن مدينة الناظور، حيث مسرح عمليات الإعداد للأعمال الإرهابية المُفترضة.
تركنا تصريحات وزير الداخلية شكيب بنموسى وراء ظهرنا، ومعها ركامات المقالات والتحليلات التي شُيِّدت فوقها أو تحتها، وما بين تلافيفها، وشددنا الرحال اتجاه "المعقل" المُفترض للحدث الذي شد المغاربة بمختلف شرائحهم ومستوياتهم و "مُعسكراتهم" السياسية والإجتماعية.. إلخ فكانت هذه الحصيلة.
في بيت عبد الغني شيغانو
كان صديقي نور الدين، يلف ثم يلف بمقود السيارة، في منحدرات ومرتفعات الطريق الوعرة، المؤِدية إلى جماعة بني شيكر، والوِجهة منزل غبد الغني شيغانو الذي نسبت ّإليه التقارير الأمنية، أنه تم العثور في بئر منزله، على كمية مُعتبرة من الأسلحة.
بالرغم من أن طرقاتنا، على باب المنزل طالت نسبيا، إلا أن شابا في العشرينيات من العمر فتح لنا، وعلى محياه استئناس بوافدين غرباء، قال لي بابتسامة حزينة كما يُمكن أن تتخيلوها، على وجه شاب غض نزلت "مشاكل الدنيا والدين" على كتفيه فجأة: "تفضل، لقد تعودنا على زيارات الغرباء، فيوم السبت الماضي، كان هنا صحافي الدوزيم وكاميراه وأسئلته المنتقاة بعناية" دخلنا منزل رجل "خطير" حسب الرواية الرسمية لأجهزة الأمن الغربية، السرية والعلنية، مشفوعة بتزكية وزير الداخلية شكيب بنموسى. فماذا تقول تفاصيل عين المكان؟
أسأل الشاب حمزة، الإبن البكر لعبد الغني شيغانو: "متى كان اعتقال أبيك؟ ومتى جاء عناصر الأمن للتفتيش عن الأسحلة، ليجيبني: "حدث ذلك يوم 26 يناير الماضي، حيث داهم خمسة أفراد فضاء منزلنا، واعتقلوا أبي على التو، وعندما ذهبوا كان هناك مَن قال لأمي أن عليها ان تُفتش عن زوجها بالرباط، وبينما انطلقت في الأثر الذي دُلَّت عليه، كان رجال الأمن السري قد اقتحموا بيتنا من جديد، ودون إذن مكتوب، في الساعة الحادية عشرة من نفس اليوم، حيث شرعوا ينقبون في السرداب الصغير المخصص للبئر، وحوض الأغراس الملحق بالبيت".
كيف جرت عملية البحث، هل طالت كل غرف البيت ومرافقه؟ يجيب الشاب حمزة: "لا، كانوا يبحثون وهواتفهم النقالة على آذانهم، ثم توجهوا إلى المكانين الذين ذكرتُ لك، ونزعوا بضع حجرات وتراب جدار سرداب بهو البئر الضيق، ثم أخذوا معهم أكياس بلاستيكية".
الأمر يتعلق بالأسلحة المُفترض أنه عُثِر عليها في عين المكان، والتي عُرِضت بكميات وفيرة. وبذلك ثُقُلت موازين الاتهامات التي ستوجه للسيد عبد الغني شيغانو، ليصبح، كمى هو مرجح، المتهم الرئيسي بحيازة أكبر قدر من الأسلحة، فمَن هو عبد الغني شيغانو يا ترى؟
يُجيب أحد جيرانه وهو شاب في نحو الثلاثين من العمر: "با شيغانو هو صاحب الدكان الذي ترونه بجانب منزله، ولم نعهد فيه أبدا أي ميل للتطرف، فهو لا يدع حتى لحيته تطول بشكل أكبر، رجل بسيط في سلوكه ومعاملاته كما شأن كل الناس البسطاء في الدوار" قبل ان يُضيف بنبرة تعجب واضحة: "مستحيل أن يكون لبا شيغانو صلة بكل هذه الأعاجيب التي نقرأها ونشاهدها في الجرائد والتلفزة".
على ذِكر وسيلة الإعلام الأخيرة، قالت لنا زوجة السيد شيغانو، وهي امرأة في نحو العقد الرابع من العمر: "جاء صحافي قناة الدوزيم، وطرح علي بعض الأسئلة اجبته عليها كلها، غير أنهم لم يبثوا جوابي بصدد تاريخ اعتقال زوجي، وتفتيش منزلنا والطريقة التي تم بها ذلك، لقد قٌلت لهم أن ذلك كان يوم 26 يناير الماضي، فلماذا لم يبثوا ما قلته، واكتفوا بعرض ما يقولون أنهم عثروا عليه من أسلحة بمنزلنا؟".
الأمر محير فعلا، إن اعتقال بلعيرج ومَن معه تم منذ بضعةأيام، كما أفاد بذلك وزير الداخلية شكيب بنموسى في ندوته في ندوته الصحافية المشهودة، في حين أن أسرة غبد الغني شيغانو، تؤكد ان الإعتقال تم منذ أزيد من شهر، وبالتحديد يوم 26 يناير، كما سلفت الإشارة، فلماذا كل هذا الفرق الزمني الشاسع بين ما تم سرا وما أُذيع جهرا بين الناس؟
"كان الأمر يتعلق بعملية إعداد لتفاصيل شبكة بلعيرج والتحكم في إخراجها إلى العلن، وترتيبا لكل الإجرائات والتدابير، بما في ذلك طريقة تسريب المعطيات لوسائل الإعلام" هكذا يُجيب أحد الفاعلين المدنيين والجمعويين في مدينة الناضور فضل عدم ذكر اسمه. قبل أن يُضيف باستنكار واضح: "كيف يُعقل أن تكتفي كل الجرائد المغربية اليومية والأسبوعية بنقل المعلومات التي حقنتها لها الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية؟ هل يتعلق الأمر بحالة حرب حيث كان المطلوب إيراد وجهة النظر المغربية الواحدة؟ وهل المطلوب تسويق صورة معينة عن مدينة الناضور والمنطقة الشمالية عموما، باعتبارها بؤرة للإرهاب، وبالتالي كل هذا السيل من المعطيات والمعلومات الأمنية التي ابتلعتها وسائل الإعلام، والصحافيين المغاربة؟"
في الواقع لا يُمكن تقديم إجابات شافية عن هذه الأسئلة الشائكة، لذا سنكتفي بالتغول أكثر في إيراد المعطيات الكثيرة، التي يزخر بها عين المكان. لنستمع إلى أحد الشباب المشتغلين بالبناء ، والذي طبلنا منه أن يفحص لنا المكان، حيث يُفترض أن أفراد أجهزة الأمن، عثروا على أنواع من الأسلحة والدخيرة، يقول المعني: "الأمر مثير للحيرة، إن لم نقل للشك، فالثغرة الموجودة في جدار البئر، حيث قيل أنه عُثر على كل تلك الكمية من الأسلحة والذخيرة، لا يتجاوز قطرها حجم عجلة شاحنة، فضلا عن أن عمقها لا يتجاوز نحو عشرين سنتيمترا، فكيف يُمكن أن تسع لكل تلك المحجوزات الكبيرة والخطيرة؟ ثم إن عينة التراب والأحجار الصغيرة التي بقيت في نفس المكان، باعتبارها استُعمِلت لمواراة المحجوزات، تؤكد أنها استُعملت مرة واحدة، ناهيك عن أن المكان غير مناسب للإحتفاظ بذلك النوع من المعدات التي عُرِضت وهي في حالة جيدة وتشع تقريبا من خلال شاشة التلفزة". قد يكون المحققون عرضوها لعملية تنظيف؟ هكذا قٌلت للشاب المتخصص في البناء فأجابني ساخرا: "ألم يكن الأمر أدعى بالأحرى للإحتفاظ بها كما هي، صيانة لكل عناصر الجريمة المُفترضة، حتى حين المحاكمة؟" وماذا قصدت بمسألة استعمال تراب وأحجار سرداب البئر مرة واحدة؟ ليجيبني: "هذا أمر خطير فعلا، ويفيد أن الذين نقَّبوا في جدارسرداب البئر، كانوا هم أول مَن انتهك تربته وأحجاره".
لندع مرة أخرى الجواب على مثل هذه الأسئلة، ولنفحص باقي المعطيات كما وقفنا عليها في عين المكان. كانت ثمة أيضا حفرة واسعة نسبيا، حوالي شجرة جوز، وهناك بالتحديد، قيل أنه تم العثور على كمية مهمة من السلحة والذخيرة المكان يتعلق الأمر بحوض من ذلك النوع الموجود في كل القرى والبوادي المغربية "التراب هش بشكل مُلفت، فهو من النوع الذي يتم تقليبه بشكل يومي تقريبا في عملية السقي" كما لاحظ الشاب الذي أدلى لنا بشهادته من موقع الخبرة.
ثمة لكل حدث يؤثثه بشر خلفية بشرية، فما هي الخلفية البشرية ل "عبد الغني شيغانو الذي تحول في بضعة أيام - إذا احتسبنا فقط منذ تاريخ الإعلان الرسمي عن اعتقاله - إلى أخطر رجل في المغرب، مُتهم بالتنسيق ضمن خلية عبد القادر يلعيرج ومن معه، مع تنظيم القاعدة، وباقي الجماعات الإرهابية، والتخطيط لأعمال إرهابية خطيرة، وتنظيم عمليات اغتيال شخصيات حكومية وحزبية بالمغرب؟ "ابني مجرد رجل مسكين" تقول امرأة طاعنة في السن (خمسة وثمانون سنة) مضيفة "إنه واحد من أصغر أبنائي وبناتي الأحد عشر" وهي تُجهش بالبكاء.. تُحاول زوجة ابنها التسرية عنها بكلمات تطمين، فترفع العجوز كفيها المعروقين إلى السماء داعية: "يا رب كن بجانب ابني فأنت تعرف أنه مظلوم".
هل كان عبد الغني على معرفة أو صداقة ب "زعيم الخلية بلعيرج"؟ تجيب زوجة عبد الغني: "أبدا إننا لا نعرف شخصا بهذا الإسم، ولم يسبق أبدا أن زار منزلنا أبدا".
وبالنسبة لكل مَن استقينا آراءهم وانطباعاتهم بعين الدوار، حيث يقع منزل أسرة عبد الغني شيغانو، فهذا الأخير كما قال أحد جيرانه وأصدقائه في نحو الخمسين من العمر: "ليس سوى ذلك الكهل المشغول بتفاصيل إعالة أسرة من خمسة عشرة فردا، بينهم ثلاثة يشكون من إعاقات ذهنية" مضيفا: "لم نلحظ على جارنا أبدا أي إشارة إلى سلوك غير طبيعي، فهو لم يكن يستقبل أبدا في بيته أشخاصا غرباء، كما أنه لم يكن منتميا أبدا لأية جماعة دينية، ولم يكن يُلاحظ عليه حتى المواظبة الدينية، ويُمكن أن يؤكد لكم كل الذين حضروا، من الجيران، لحفل زفاف إحدى بناته، أنه رقص مثل أي رجل شعبي عادي بتلك المناسبة".
غير أنه بالرغم من رقص الرجل فإنه "كان يُعاني - كما قال لنا ابنه حمزة - من عسر مادي، ولولا المساعدة المادية التي نتلقاها من بعض الأقارب الموجودين بأوروبا، لكانت الكارثة" مضيفا "أبي ليس بالرجل المتدين، فعلى سبيل المثال أنا لا أصلي بالرغم من أنني تجاوزت سن العشرين، ومع ذلك فهو لم يوجه لي أي لوم، بل كان يتعامل مع الأمر بشكل عادي".
تنحيتُ والشاب حمزة مكانا قصيا نسبيا، لأعبر له عن الرغبة في الحصول على صورة شخصية لوالده، بدا كما لو لُدغ بقسوة، قال: "إننا أسرة بسيطة، ومن شأن نشر صورة لوالدي، أن يُعرض إخوتي الصغار لمتاعب نفسية" مضيفا: "يكفي أن اسم العائلة أصبح في ملايين الأذهان، مقرونا بتهمة واحدة من أبشع الجرائم". كان الشاب يتحدث بنبرة عميقة أكبر من إسمه، ليبدو واضحا أنه أصبح منذ اليوم السادس والعشرين من شهر يناير الماضي - وليس منذ نحو عشرة أيام كما أفاد ت بذلك الرواية الأمنية - مُطالبا أن يلبس جلد رجل ناضج ليقوم بدور رب عائلة قوامها خمسة عشرة فردا، هم إخوته وأخواته وخالاته وأمه وجده، وذلك إلى أجل ربما سيطول.
عبد القادر بلعيرج: زعيم الخلية الإرهابية المفترض
ليس ثمة من معطيات قليلة أو كثيرة عن عبد القادر بلعيرج، كما هو الشأن بالنسبة للمتهم الآخر عبد الغني شيغانو، باستثناء أنه ينحدر من جماعة بني سيدل المجاورة لجماعة بني شيكر، وذلك على المرتفعات الجبلية التوسطة المطلة على مدينتي الناضور ومليلية، ويملك بيتا في حي عبد الكريم الخطابي.. بيت من ثلاثة طوابق و "نادرا جدا ما يأتي إليه زوار، حيث تأتي شابتان في الغالب في مقتبل العمر، قد تكونان ابنتاه" كما يقول أحد جيران المعني مضيفا "وكما تلاحظ فإن نوافذ الطوابق الثلاثة تم وضع غشاءات بلاستيكية عليها حتى لا يتسرب الغبار إلى البيت الذي نادرا جدا ما يتم فتحه". يصمت الرجل الخمسيني للحظة بادلا جهدا ليدلي بهذه التفاصيل الإضافية: "أذكر أن الشابتين اللتين كانتا تأتيان في بعض أيام الصيف، خلال السنوات الأخيرة إلى بيت بلعيرج، كانتا تفترشان سطح المنزل وهما مستلقيتان على الأرض عاريتان كما ولدتهما أمهما، وكان ذلك مشهدا يُغري بعض شباب الجوار بالتلصص" ثم يستدرك مصدرنا: "الشيء الذي أثار حفيظة عبد القادر بلعيرج مرة، وأخبر به أشخاصا يعرفهم من الحي، وهم قلائل لدرجة عدهم على رأس أصابع اليد الواحدة".
يذكر مصدرنا أيضا "إن عبد القادر بلعيرج، كان يبدو منشغلا أكثر بحياته في بلاد المهجر (بلجيكا) حيث يقيم وزوجته وأبناءه الثلاثة، وذلك ربما بسبب أن أباه توفي حينما كان ما يزال صغيرا، كما أن أمه توفيت منذ نحو ثلاث سنوات، لذا فإن زياراته قلت أكثر فأكثر، حيث لم يأتِ منذ وفاة والدته".
ليس من شك أن بلعيرج يُعتبر، ليس فقط لغزا أمنيا، باعتبار أنه يوجد اليوم في قلب "خلية إرهابية" كانت حسب رواية أجهزة الأمن المغربي، على أهبة الإعداد ل "قربلة" إجرامية خطيرة، أما الصحافة في مدينة بروكسيل، فقالت انه كان عميلا للمخابرات البلجيكية على مدى ثمان سنوات، بل هو أيضا بالنسبة لجيرانه، في نفس الحي، أقرب إلى شخص رحل عن الحي، ولا يأتيه إلا لتذكر أيام الصبا والمراهقة والشباب.
أما بعض شباب الحي الذين اطلعوا على التاريخ السياسي الديني للرجل، فيذكرون أنه انتمى خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي لتنظيم لشبيبة الإسلامية لصاحبه عبد الكريم مطيع، الموجود في منفى اختياري منذ زهاء أربعة عقود بليبيا، وانه - أي بلعيرج - كانت له آراؤه "الثورية" كغيره من إسلاميي تلك المرحلة "المشتعلة" بضروفها وخصوصياتها السياسية والفكرية والدينية.
وجوابا على سؤال من هذا القبيل: هل يكون الرجل قد أعاد الصلة بأحلام الشباب في التغيير عن طريق العنف؟ ليكون الجواب: "مَن يدري، لكن ثمة الكثير من علامات الإستفهام عن تفاصيل الإعداد الأمني والإعلامي، لقصة بلعيرج وشبكته الإرهابية، وبالتالي لماذا كل هذا التحامل على منطقة الشمال المغربي، بالرغم من أن عدد المتهمين المحسوبين عليها - أي المنطقة - ثلاثة أفراد من بين نحو أربعين متهما؟".
شاب آخر ناضوري أخذته حمية هذا النقاش، فتدخل قائلا: "لماذا نجد أن كل المتهمين الذين قدمتهم لنا وزارة الداخلية عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، هم من مهربي الأسلحة والسياسيين، في حين لا أثر بينهم لأولئك المُفترض أن لديهم خبرة وتجربة لاستعمال كل تلك الكمية من الأسلحة والذخيرة؟".
بطبيعة الحال إنها أسئلة إضافية تتكدس فوق سابقاتها، وغني عن القول أن الإجابات عنها ليست من اختصاص هذه الإستقصاءات الميدانية، التي نقلناها من عين المكان وحواليه، بعيدا عن مكاتب وزارة الداخلية، ذلك لأن إفادات هذه الأخيرة بصدد موضوع "شبكة عبد القادر بلعيرج ومن معه" موجودة ملء السمع والبصر
مصطفى حيران 05-03-2008
وضعت التقارير الأمنية مدينة الناضور على رأس ما أصبح يُسمى بخلية "بلعيرج الإرهابية".. وكان مثيرا للإنتباه، إن لم نقل للاستغراب، أن صحفنا اليومية والأسبوعية، لم تكلف أنفسها وصحافييها "عناء نقل معطيات عيانية من عين المكان" ونقصد بالتحديد، جماعتي بني سيدل وبني شيكر، فضلا عن مدينة الناظور، حيث مسرح عمليات الإعداد للأعمال الإرهابية المُفترضة.
تركنا تصريحات وزير الداخلية شكيب بنموسى وراء ظهرنا، ومعها ركامات المقالات والتحليلات التي شُيِّدت فوقها أو تحتها، وما بين تلافيفها، وشددنا الرحال اتجاه "المعقل" المُفترض للحدث الذي شد المغاربة بمختلف شرائحهم ومستوياتهم و "مُعسكراتهم" السياسية والإجتماعية.. إلخ فكانت هذه الحصيلة.
في بيت عبد الغني شيغانو
كان صديقي نور الدين، يلف ثم يلف بمقود السيارة، في منحدرات ومرتفعات الطريق الوعرة، المؤِدية إلى جماعة بني شيكر، والوِجهة منزل غبد الغني شيغانو الذي نسبت ّإليه التقارير الأمنية، أنه تم العثور في بئر منزله، على كمية مُعتبرة من الأسلحة.
بالرغم من أن طرقاتنا، على باب المنزل طالت نسبيا، إلا أن شابا في العشرينيات من العمر فتح لنا، وعلى محياه استئناس بوافدين غرباء، قال لي بابتسامة حزينة كما يُمكن أن تتخيلوها، على وجه شاب غض نزلت "مشاكل الدنيا والدين" على كتفيه فجأة: "تفضل، لقد تعودنا على زيارات الغرباء، فيوم السبت الماضي، كان هنا صحافي الدوزيم وكاميراه وأسئلته المنتقاة بعناية" دخلنا منزل رجل "خطير" حسب الرواية الرسمية لأجهزة الأمن الغربية، السرية والعلنية، مشفوعة بتزكية وزير الداخلية شكيب بنموسى. فماذا تقول تفاصيل عين المكان؟
أسأل الشاب حمزة، الإبن البكر لعبد الغني شيغانو: "متى كان اعتقال أبيك؟ ومتى جاء عناصر الأمن للتفتيش عن الأسحلة، ليجيبني: "حدث ذلك يوم 26 يناير الماضي، حيث داهم خمسة أفراد فضاء منزلنا، واعتقلوا أبي على التو، وعندما ذهبوا كان هناك مَن قال لأمي أن عليها ان تُفتش عن زوجها بالرباط، وبينما انطلقت في الأثر الذي دُلَّت عليه، كان رجال الأمن السري قد اقتحموا بيتنا من جديد، ودون إذن مكتوب، في الساعة الحادية عشرة من نفس اليوم، حيث شرعوا ينقبون في السرداب الصغير المخصص للبئر، وحوض الأغراس الملحق بالبيت".
كيف جرت عملية البحث، هل طالت كل غرف البيت ومرافقه؟ يجيب الشاب حمزة: "لا، كانوا يبحثون وهواتفهم النقالة على آذانهم، ثم توجهوا إلى المكانين الذين ذكرتُ لك، ونزعوا بضع حجرات وتراب جدار سرداب بهو البئر الضيق، ثم أخذوا معهم أكياس بلاستيكية".
الأمر يتعلق بالأسلحة المُفترض أنه عُثِر عليها في عين المكان، والتي عُرِضت بكميات وفيرة. وبذلك ثُقُلت موازين الاتهامات التي ستوجه للسيد عبد الغني شيغانو، ليصبح، كمى هو مرجح، المتهم الرئيسي بحيازة أكبر قدر من الأسلحة، فمَن هو عبد الغني شيغانو يا ترى؟
يُجيب أحد جيرانه وهو شاب في نحو الثلاثين من العمر: "با شيغانو هو صاحب الدكان الذي ترونه بجانب منزله، ولم نعهد فيه أبدا أي ميل للتطرف، فهو لا يدع حتى لحيته تطول بشكل أكبر، رجل بسيط في سلوكه ومعاملاته كما شأن كل الناس البسطاء في الدوار" قبل ان يُضيف بنبرة تعجب واضحة: "مستحيل أن يكون لبا شيغانو صلة بكل هذه الأعاجيب التي نقرأها ونشاهدها في الجرائد والتلفزة".
على ذِكر وسيلة الإعلام الأخيرة، قالت لنا زوجة السيد شيغانو، وهي امرأة في نحو العقد الرابع من العمر: "جاء صحافي قناة الدوزيم، وطرح علي بعض الأسئلة اجبته عليها كلها، غير أنهم لم يبثوا جوابي بصدد تاريخ اعتقال زوجي، وتفتيش منزلنا والطريقة التي تم بها ذلك، لقد قٌلت لهم أن ذلك كان يوم 26 يناير الماضي، فلماذا لم يبثوا ما قلته، واكتفوا بعرض ما يقولون أنهم عثروا عليه من أسلحة بمنزلنا؟".
الأمر محير فعلا، إن اعتقال بلعيرج ومَن معه تم منذ بضعةأيام، كما أفاد بذلك وزير الداخلية شكيب بنموسى في ندوته في ندوته الصحافية المشهودة، في حين أن أسرة غبد الغني شيغانو، تؤكد ان الإعتقال تم منذ أزيد من شهر، وبالتحديد يوم 26 يناير، كما سلفت الإشارة، فلماذا كل هذا الفرق الزمني الشاسع بين ما تم سرا وما أُذيع جهرا بين الناس؟
"كان الأمر يتعلق بعملية إعداد لتفاصيل شبكة بلعيرج والتحكم في إخراجها إلى العلن، وترتيبا لكل الإجرائات والتدابير، بما في ذلك طريقة تسريب المعطيات لوسائل الإعلام" هكذا يُجيب أحد الفاعلين المدنيين والجمعويين في مدينة الناضور فضل عدم ذكر اسمه. قبل أن يُضيف باستنكار واضح: "كيف يُعقل أن تكتفي كل الجرائد المغربية اليومية والأسبوعية بنقل المعلومات التي حقنتها لها الأجهزة الأمنية ووزارة الداخلية؟ هل يتعلق الأمر بحالة حرب حيث كان المطلوب إيراد وجهة النظر المغربية الواحدة؟ وهل المطلوب تسويق صورة معينة عن مدينة الناضور والمنطقة الشمالية عموما، باعتبارها بؤرة للإرهاب، وبالتالي كل هذا السيل من المعطيات والمعلومات الأمنية التي ابتلعتها وسائل الإعلام، والصحافيين المغاربة؟"
في الواقع لا يُمكن تقديم إجابات شافية عن هذه الأسئلة الشائكة، لذا سنكتفي بالتغول أكثر في إيراد المعطيات الكثيرة، التي يزخر بها عين المكان. لنستمع إلى أحد الشباب المشتغلين بالبناء ، والذي طبلنا منه أن يفحص لنا المكان، حيث يُفترض أن أفراد أجهزة الأمن، عثروا على أنواع من الأسلحة والدخيرة، يقول المعني: "الأمر مثير للحيرة، إن لم نقل للشك، فالثغرة الموجودة في جدار البئر، حيث قيل أنه عُثر على كل تلك الكمية من الأسلحة والذخيرة، لا يتجاوز قطرها حجم عجلة شاحنة، فضلا عن أن عمقها لا يتجاوز نحو عشرين سنتيمترا، فكيف يُمكن أن تسع لكل تلك المحجوزات الكبيرة والخطيرة؟ ثم إن عينة التراب والأحجار الصغيرة التي بقيت في نفس المكان، باعتبارها استُعمِلت لمواراة المحجوزات، تؤكد أنها استُعملت مرة واحدة، ناهيك عن أن المكان غير مناسب للإحتفاظ بذلك النوع من المعدات التي عُرِضت وهي في حالة جيدة وتشع تقريبا من خلال شاشة التلفزة". قد يكون المحققون عرضوها لعملية تنظيف؟ هكذا قٌلت للشاب المتخصص في البناء فأجابني ساخرا: "ألم يكن الأمر أدعى بالأحرى للإحتفاظ بها كما هي، صيانة لكل عناصر الجريمة المُفترضة، حتى حين المحاكمة؟" وماذا قصدت بمسألة استعمال تراب وأحجار سرداب البئر مرة واحدة؟ ليجيبني: "هذا أمر خطير فعلا، ويفيد أن الذين نقَّبوا في جدارسرداب البئر، كانوا هم أول مَن انتهك تربته وأحجاره".
لندع مرة أخرى الجواب على مثل هذه الأسئلة، ولنفحص باقي المعطيات كما وقفنا عليها في عين المكان. كانت ثمة أيضا حفرة واسعة نسبيا، حوالي شجرة جوز، وهناك بالتحديد، قيل أنه تم العثور على كمية مهمة من السلحة والذخيرة المكان يتعلق الأمر بحوض من ذلك النوع الموجود في كل القرى والبوادي المغربية "التراب هش بشكل مُلفت، فهو من النوع الذي يتم تقليبه بشكل يومي تقريبا في عملية السقي" كما لاحظ الشاب الذي أدلى لنا بشهادته من موقع الخبرة.
ثمة لكل حدث يؤثثه بشر خلفية بشرية، فما هي الخلفية البشرية ل "عبد الغني شيغانو الذي تحول في بضعة أيام - إذا احتسبنا فقط منذ تاريخ الإعلان الرسمي عن اعتقاله - إلى أخطر رجل في المغرب، مُتهم بالتنسيق ضمن خلية عبد القادر يلعيرج ومن معه، مع تنظيم القاعدة، وباقي الجماعات الإرهابية، والتخطيط لأعمال إرهابية خطيرة، وتنظيم عمليات اغتيال شخصيات حكومية وحزبية بالمغرب؟ "ابني مجرد رجل مسكين" تقول امرأة طاعنة في السن (خمسة وثمانون سنة) مضيفة "إنه واحد من أصغر أبنائي وبناتي الأحد عشر" وهي تُجهش بالبكاء.. تُحاول زوجة ابنها التسرية عنها بكلمات تطمين، فترفع العجوز كفيها المعروقين إلى السماء داعية: "يا رب كن بجانب ابني فأنت تعرف أنه مظلوم".
هل كان عبد الغني على معرفة أو صداقة ب "زعيم الخلية بلعيرج"؟ تجيب زوجة عبد الغني: "أبدا إننا لا نعرف شخصا بهذا الإسم، ولم يسبق أبدا أن زار منزلنا أبدا".
وبالنسبة لكل مَن استقينا آراءهم وانطباعاتهم بعين الدوار، حيث يقع منزل أسرة عبد الغني شيغانو، فهذا الأخير كما قال أحد جيرانه وأصدقائه في نحو الخمسين من العمر: "ليس سوى ذلك الكهل المشغول بتفاصيل إعالة أسرة من خمسة عشرة فردا، بينهم ثلاثة يشكون من إعاقات ذهنية" مضيفا: "لم نلحظ على جارنا أبدا أي إشارة إلى سلوك غير طبيعي، فهو لم يكن يستقبل أبدا في بيته أشخاصا غرباء، كما أنه لم يكن منتميا أبدا لأية جماعة دينية، ولم يكن يُلاحظ عليه حتى المواظبة الدينية، ويُمكن أن يؤكد لكم كل الذين حضروا، من الجيران، لحفل زفاف إحدى بناته، أنه رقص مثل أي رجل شعبي عادي بتلك المناسبة".
غير أنه بالرغم من رقص الرجل فإنه "كان يُعاني - كما قال لنا ابنه حمزة - من عسر مادي، ولولا المساعدة المادية التي نتلقاها من بعض الأقارب الموجودين بأوروبا، لكانت الكارثة" مضيفا "أبي ليس بالرجل المتدين، فعلى سبيل المثال أنا لا أصلي بالرغم من أنني تجاوزت سن العشرين، ومع ذلك فهو لم يوجه لي أي لوم، بل كان يتعامل مع الأمر بشكل عادي".
تنحيتُ والشاب حمزة مكانا قصيا نسبيا، لأعبر له عن الرغبة في الحصول على صورة شخصية لوالده، بدا كما لو لُدغ بقسوة، قال: "إننا أسرة بسيطة، ومن شأن نشر صورة لوالدي، أن يُعرض إخوتي الصغار لمتاعب نفسية" مضيفا: "يكفي أن اسم العائلة أصبح في ملايين الأذهان، مقرونا بتهمة واحدة من أبشع الجرائم". كان الشاب يتحدث بنبرة عميقة أكبر من إسمه، ليبدو واضحا أنه أصبح منذ اليوم السادس والعشرين من شهر يناير الماضي - وليس منذ نحو عشرة أيام كما أفاد ت بذلك الرواية الأمنية - مُطالبا أن يلبس جلد رجل ناضج ليقوم بدور رب عائلة قوامها خمسة عشرة فردا، هم إخوته وأخواته وخالاته وأمه وجده، وذلك إلى أجل ربما سيطول.
عبد القادر بلعيرج: زعيم الخلية الإرهابية المفترض
ليس ثمة من معطيات قليلة أو كثيرة عن عبد القادر بلعيرج، كما هو الشأن بالنسبة للمتهم الآخر عبد الغني شيغانو، باستثناء أنه ينحدر من جماعة بني سيدل المجاورة لجماعة بني شيكر، وذلك على المرتفعات الجبلية التوسطة المطلة على مدينتي الناضور ومليلية، ويملك بيتا في حي عبد الكريم الخطابي.. بيت من ثلاثة طوابق و "نادرا جدا ما يأتي إليه زوار، حيث تأتي شابتان في الغالب في مقتبل العمر، قد تكونان ابنتاه" كما يقول أحد جيران المعني مضيفا "وكما تلاحظ فإن نوافذ الطوابق الثلاثة تم وضع غشاءات بلاستيكية عليها حتى لا يتسرب الغبار إلى البيت الذي نادرا جدا ما يتم فتحه". يصمت الرجل الخمسيني للحظة بادلا جهدا ليدلي بهذه التفاصيل الإضافية: "أذكر أن الشابتين اللتين كانتا تأتيان في بعض أيام الصيف، خلال السنوات الأخيرة إلى بيت بلعيرج، كانتا تفترشان سطح المنزل وهما مستلقيتان على الأرض عاريتان كما ولدتهما أمهما، وكان ذلك مشهدا يُغري بعض شباب الجوار بالتلصص" ثم يستدرك مصدرنا: "الشيء الذي أثار حفيظة عبد القادر بلعيرج مرة، وأخبر به أشخاصا يعرفهم من الحي، وهم قلائل لدرجة عدهم على رأس أصابع اليد الواحدة".
يذكر مصدرنا أيضا "إن عبد القادر بلعيرج، كان يبدو منشغلا أكثر بحياته في بلاد المهجر (بلجيكا) حيث يقيم وزوجته وأبناءه الثلاثة، وذلك ربما بسبب أن أباه توفي حينما كان ما يزال صغيرا، كما أن أمه توفيت منذ نحو ثلاث سنوات، لذا فإن زياراته قلت أكثر فأكثر، حيث لم يأتِ منذ وفاة والدته".
ليس من شك أن بلعيرج يُعتبر، ليس فقط لغزا أمنيا، باعتبار أنه يوجد اليوم في قلب "خلية إرهابية" كانت حسب رواية أجهزة الأمن المغربي، على أهبة الإعداد ل "قربلة" إجرامية خطيرة، أما الصحافة في مدينة بروكسيل، فقالت انه كان عميلا للمخابرات البلجيكية على مدى ثمان سنوات، بل هو أيضا بالنسبة لجيرانه، في نفس الحي، أقرب إلى شخص رحل عن الحي، ولا يأتيه إلا لتذكر أيام الصبا والمراهقة والشباب.
أما بعض شباب الحي الذين اطلعوا على التاريخ السياسي الديني للرجل، فيذكرون أنه انتمى خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي لتنظيم لشبيبة الإسلامية لصاحبه عبد الكريم مطيع، الموجود في منفى اختياري منذ زهاء أربعة عقود بليبيا، وانه - أي بلعيرج - كانت له آراؤه "الثورية" كغيره من إسلاميي تلك المرحلة "المشتعلة" بضروفها وخصوصياتها السياسية والفكرية والدينية.
وجوابا على سؤال من هذا القبيل: هل يكون الرجل قد أعاد الصلة بأحلام الشباب في التغيير عن طريق العنف؟ ليكون الجواب: "مَن يدري، لكن ثمة الكثير من علامات الإستفهام عن تفاصيل الإعداد الأمني والإعلامي، لقصة بلعيرج وشبكته الإرهابية، وبالتالي لماذا كل هذا التحامل على منطقة الشمال المغربي، بالرغم من أن عدد المتهمين المحسوبين عليها - أي المنطقة - ثلاثة أفراد من بين نحو أربعين متهما؟".
شاب آخر ناضوري أخذته حمية هذا النقاش، فتدخل قائلا: "لماذا نجد أن كل المتهمين الذين قدمتهم لنا وزارة الداخلية عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، هم من مهربي الأسلحة والسياسيين، في حين لا أثر بينهم لأولئك المُفترض أن لديهم خبرة وتجربة لاستعمال كل تلك الكمية من الأسلحة والذخيرة؟".
بطبيعة الحال إنها أسئلة إضافية تتكدس فوق سابقاتها، وغني عن القول أن الإجابات عنها ليست من اختصاص هذه الإستقصاءات الميدانية، التي نقلناها من عين المكان وحواليه، بعيدا عن مكاتب وزارة الداخلية، ذلك لأن إفادات هذه الأخيرة بصدد موضوع "شبكة عبد القادر بلعيرج ومن معه" موجودة ملء السمع والبصر
No comments:
Post a Comment