خاتم صحراوي في يد مهاجر إفريقي يفتح قصة مثيرة
14/07/2007بقلم: السيد حمدي يحظيه
رمانا المغاربة مثل القمامة في الصحراء ولو لا البوليزاريو لكانت مجزرةركبت القطار يوم سبت ذاهبا إلى مدينة قريبة، وحين ركبت لم أكن أظن أن هناك مفاجأة تنتظرني على غير موعد. كان القطار شبه غاص بالمهاجرين من مختلف الألوان واللغات وهي صورة غير غريبة ولا مزعجة بالنسبة لساكنة الغربة في أسبانيا، فالقطار هنا يكاد يكون وسيلة سفر خاصة بالمسافرين الأجانب فقط. حين صعدت القطار وجلست كان مهاجر أفريقي في الكرسي المقابل لي يرفع هاتفه ليكلم زميل له في مكان ما، وحين ارتفعت يده حاملة التلفون لمحت خاتما صحراويا في إصبعه. كان خاتما من ذات الخواتم التي يضرب عليها الصناع الصحراويين العلم الصحراوي والتي كانت توزع على الأجانب كهدايا وصارت تباع لهم الآن. ودققت النظر فكان الخاتم فعلا خاتما من خواتمنا التي نعرف وتحمل علمنا. ظننت أنه موريتاني فكلمته بالحسانية ففهمني وقال لي انه يتكلم العربية لكنه ليس موريتاني وإنما سنغالي. وتعجبت كيف وصل الخاتم إليه بحكم البعد الجغرافي بيننا معهم وعلاقتنا الباردة ببلدهم. وسألته عن من أعطاه الخاتم فكانت الحكاية الغربية والعجيبة.الرجل أسمه علي آدم وهو مثقف ومطلع يتكلم الفرنسية والعربية بلكنة إفريقية لكنها مفهومة في غالبيتها. كان من المهاجرين الذين رماهم المغاربة ذات يوم في الصحراء حذاء الحزام الرملي ليموتوا فأنقذهم الجيش الصحراوي. قلت له أنني صحراوي فوقف من الكرسي كي يصافحني بحرارة ويبتسم لي بانشراح. نزلنا من القطار دون إن يكمل لي روايته عن لقائه بالبوليزاريو، فطلبت منه أن نذهب إلى مقهى ليكمل لي القصة. جلس معي يتحدث لي عن كيف كان اللقاء مع الصحراويين. وجدت كلمة viva F.POLISARIO مكتوبة في كهف ...فبعد حكاية طويلة عن رحلة أطول من قرية صغيرة على شاطئ نهر السنغال وصل إلى المغرب كي يرمي نفسه في البحر طالبا المال في أسبانيا. وحين يستطرد يقول:" كنت أعرف أن الذهاب إلى أسبانيا صعب جدا ودونه الموت، لكن لم تكن باليد حيلة وكان لا مفر من المغامرة الفاشلة دائما بنسبة 70%. ...في قريتنا كنا شبه موتى وكان الناس يموتون من الجوع، لا مال ولا عمل ولا غذاء للأطفال وتلك مأساة حقيقية لا يمكن لذي لب أن ينام معها دقيقة واحدة. كان معي ثلاثة، لكن الذين اتصلوا بنا من المغاربة لتهريبنا إلى أسبانيا اشترطوا على كل واحد 1600 يورو لتوفير المركب فقط دون سائق وعلينا البحث إن سائق ليعطيه كل واحد 500 يورو من كل الركاب، وقالوا لنا أنهم يعرفون بعض السواق وسيتحدثون معهم في الموضوع ولا بد أن يقبل احدهم قيادة المركب والمغامرة. كنا نتحدث معهم بالفرنسية، ورغم أنني كنت افهم العربية إلا أنني رفضت الحديث معهم بها وادعيت عدم معرفتها. كان العرض بدون ضمانات، ورفضوا حتى إعطائنا أسمائهم، فهم على ما يبدو أثرياء أو شخصيات مهمة وكانوا لا يزوروننا إلا في الليل. ذهبوا بنا في سيارات اندروفير إلى وادي كبير في الصحراء الغربية وتركونا في بعض الكهوف والدشم في ذلك الوادي. في إحدى هذه الكهوف كانت هناك كلمة قديمة تكاد لا تقرأ مكتوبة على الجدار الداخلي باللاتينية هي viva F. POLISARIO . حفظت الكلمة لطول المدة التي قضيناها في ذلك الوادي، لكن لم أعرف ما تعني. كنا ننتظر ولا نعرف متى سنرحل، وفي إحدى الليالي زارنا مهربو البشر الذين أتوا بنا إلى الوادي. كان قائدهم غاضبا جدا، وكان يتحدث في التلفون بالعربية مع أحد ما ففهمت أنهم لا زالوا ينتظرون خشب المركب الذي سيأتي من مكان ما اسمه "الداخلة" على ما أظن، وبعد ذلك سيتم تركيب المركب في المكان الذي نقلونا إليه في تلك الصحراء الخالية. وحين تمت الترتيبات سلمنا لهم المبلغ الذي طلبوا منا وحملونا في سيارات اندروفير إلى الشاطئ في ظلمة ما قبل الليل. ركبنا في الظلمة وكنا حوالي 20 كلنا من السنغال ومالي، لكن حين تحرك المركب في البحر لمسافة قصيرة فاجأتنا أضواء قوارب قريبة منا تطلب منا التوقف. كانت قوارب رجال محاربة الهجرة السرية، تأكدنا أننا وقعنا في فخ، وأننا خسرنا المال وضاع الحلم وتبدد كالسراب. اثنان من المهربين عرفنا أنهم من بين رجال الدرك..وحشرونا في حوش كبير في الليل وهنا تعرضنا للضرب والسب والشتم، وقاموا بسلب منا كل ما نملك من نقود وساعات وأشياء شخصية. في الصباح قاموا بالتقاط صور مباشرة وجانبية لنا وأخذوا بصماتنا وسجلوا أسماءنا وبلداننا وأعادونا إلى الحوش الكبير مرة أخرى في إحدى المدن. لم يكن سائق المركب بيننا، ذهبوا به إلى جهة أخرى بعد القبض علينا مباشرة في الليل. في المركز الذي نقلونا إليه للتصوير شاهدنا من وراء الزجاج اثنين من الذين كانوا يزوروننا في الوادي للإشراف على تهريبنا وأحدهم هو الذي تسلم المبلغ المالي من كل واحد منا... ولم نعرف هل كانا من المتعاونين مع الدرك الذي ألقى علينا القبض أم كانا عنصرين منه. والخلاصة أنهم تسلموا منا المال ووشوا بنا كي يحصلوا على المال المتبقي معنا. إنهم يعرفون أن كل مهاجر سري يجمع قبل هجرته كل ما يستطيع من مال، يبيع أملاكه وجواهر نسائه وأمه حتى يحصل على المبلغ المطلوب لإيجار المركب وما يكفيه للعيش في أسبانيا عدة شهور في حال وصوله سالما. أنا مثلا كنا أحمل معي 3000 دولار و1000 يورو. لم اعد بأي شيء على الإطلاق. رمونا في الصحراء مثل أكياس القمامة... كانوا بكل تأكيد يريدونا قتلنا ..حين سلبونا المال والحلم وكل شيء حملونا في شاحنات كبيرة للدرك في الليل ورمونا في صحراء خالية صامتة لا يكاد المرء يسمع فيها أي صوت. كان المناخ قاسيا تلك الليلة التي رمونا فيها في الصحراء بعيدا عن أي أثر للحياة. كانوا يرمونا مجموعة منا في مكان ثم يذهبون إلى مكان أخر ويرمون مجموعة أخرى، أحيانا تتكون المجموعة من ثلاثة وأحيانا أخرى من اثنين وفي مرات عديدة واحد. كانوا يرمون الشخص على الأرض مثلما يرمون كيس القمامة، يرمونه والسيارة تسير دون أن تتوقف فيسقط على الأحراش والأرض الصلبة. في الصباح اكتشفنا أننا في مكان بعيد عن المدن والحياة وأننا في صحراء موحشة. لقد أرادوا قتلنا بكل تأكيد وبلغت بهم الخسة أنهم كانوا يرموننا في ذلك المكان الخالي بدون ماء ولا غذاء. لم أكن أتصور في حياتي أنه يمكن أن توجد دولة على وجه الأرض قادرة على رمي البشر للموت في الصحاري دون ماء وغذاء. وجدنا البوليزاريو... أنقذونا من الموتتهنا في الصحراء القاسية بحثا عن الماء والحياة ونحن في غاية الإنهاك. كنا نمشي في اتجاهات مختلفة دون ان نعرف إلى أين نحن ذاهبون. كنا مجموعة تتكون من أربعة، وحين دقت الساعة الثالثة تقريبا في المساء كان العطش قد بدأ يؤثر على رؤيتنا وحركاتنا وخفتت أصواتنا. بدأنا نفكر أنه إذا لم نجد أحدا في المساء سنموت من العطش. كان الجو جافا وحارا ويمتص السوائل من الجسد بسرعة فرحنا نيبس ونجف مع مرور كل ساعة. بدأ الموت يتراقص أمام أعيننا، بدأ البعض يبكي، وسقط أحدنا مغميا عليه ولم يعد قادرا على السير. تركناه تحت ظل شجرة وواصلنا سيرنا. حين يصبح الموت عطشا قريبا منك وتحسه ينعدم فيك الإحساس والشفقة ولم يعد يؤثر فيك أي منظر محزن مثير للشفقة. نمنا في الليل في العراء وفي الصباح تهنا من جديد، وحين لم نعد نميز بين الأشياء رمى القدر في طريقنا سيارة اندروفير ذاهبة إلى مكان ما. توقفوا وبدأوا يسقوننا ويرشوننا ويعالجون جراحنا. عادت الحياة إلى أجسادنا وأرواحنا فصرنا نسمع كلامهم ونفكر. أنا مثلا أول ما فكرت فيه بعد أن شربت هو زميلنا الذي تركناه تحت الشجرة والذي لا بد أن يكون قد مات عطشا. ظننا أنهم موريتانيون فهم يتكلمون نفس اللغة التي نعرف في موريتانيا ويتشابهون في الشكل واللون. ظننا إن المغاربة رمونا في صحراء موريتانيا قرب بلدنا السنغال. حين أفقنا من الغيبوبة قال لنا احدهم بالفرنسية أنهم صحراوين من البوليزاريو. تذكرت كلمة viva POLISARIO التي وجدنا محفورة في الكهف الذي كنا نسكن فيه في انتظار التهريب. كان احد الرجال الثلاثة في السيارة اسمه إبراهيم وحين كان يعد لنا بعض الأكل سقط هذا الخاتم من ملابسه فالتقطته وأعدته إليه فقال لي ضاحكا: خذه إنه هدية من البوليزاريو . هذا المرسوم عليه هو علمنا. " وضحك.بقى الخاتم معي إكراما لذلك الرجل وأتمنى أن يبقى معي مدة طويلة. ولم نكن من تم إنقاذنا وحدنا، فحين علم رجال البوليزاريو الشرفاء بما حدث لنا ذهبوا يبحثون عنا وحتى المواطنين البسطاء شاركوا في العملية وتمكنوا من إنقاذ الكثير منا. كان أولئك الرجال الشرفاء الذين لا يملكون أشياء كثيرة أشهم من عرفت في حياتي من الرجال. وجدت نفسي وجها لوجه مع حركة البوليزاريو التي عرفت منهم أنها تطالب بتحرير الصحراء الغربية وأن اسمها المحفور في الكهف الذي كنا نسكن فيه كان فال خير علينا. قدموا لنا كل ما يملكون واستدعوا الصحافة والأمم المتحدة كي تنقل مأساتنا إلى العالم الخارجي في ذلك المكان الصحراوي المفعم بالرجولة والشهامة التي أصبحت نادرة في عالمنا المجنون الذي نعيش فيه.ونجحت المغامرة أخيرا.عدنا إلى بلداننا وحكينا على أهلنا مغامرتنا الفاشلة فحمدوا الله على سلامتنا. قال لنا الحكماء منهم أن السلامة والصحة كنز، لكن بعد أيام عاد الفقر من جديد يحثنا على المغامرة فإما النجاة أو الموت لأن حياتنا في البلد ليست حياة. جمعت من جديد بعض المال لكن هذه المرة قررت أن لا أطلع أحدا على المغامرة. سلكت نفس الطريق المضني من جديد حتى وصلت إلى المغرب. بدأت أتحرى سريا بحثا عن منظمي الهجرة السرية. وقعت في نفس الشبكة القديمة التي وقعت في فخها في المرة الأولى دون أن اعلم. ذهبوا بنا في الليل إلى نفس المكان الذي كنا فيه قبل رحلتنا الفاشلة. سكنت في ذات الكهف الذي كُتبت في داخله كلمة viva POLISARIO. الآن الكلمة غير مبهمة بالنسبة لي. أعرفها وأحبها ولن أنسى طول عمري أنهم أنقذوا حياتي وحياة أطفالي. أخبرت المجموعة التي وجدت أمامي بما حصل لنا في المرة السابقة فهربنا في الليل وبحثنا عن مجموعة تهريب أخرى حتى لا يحصل لنا نفس المصير السابق . عثرنا على مجموعة جديدة وسافرنا في مركب تهريب أخر إلى كناريا ووصلنا سالمين وها أنا هنا.انتهت حكاية علي أدم وذهب حاملا حقيبته الصغيرة على كتفه بحثا عن حقل يقطف منه الثمار قرب المدينة التي نسكن فيها في كاتلونيا أين يكثر المهاجرون بدون وثائق في الصيف بحثا عن عمل سري في الحقول. ذهب وهو معتز تمام الاعتزاز بلقاء البوليزاريو وبمعرفتها، ويحلف أنه لن ينسى جميلها ..sidhamdi@yahoo.fr
14/07/2007بقلم: السيد حمدي يحظيه
رمانا المغاربة مثل القمامة في الصحراء ولو لا البوليزاريو لكانت مجزرةركبت القطار يوم سبت ذاهبا إلى مدينة قريبة، وحين ركبت لم أكن أظن أن هناك مفاجأة تنتظرني على غير موعد. كان القطار شبه غاص بالمهاجرين من مختلف الألوان واللغات وهي صورة غير غريبة ولا مزعجة بالنسبة لساكنة الغربة في أسبانيا، فالقطار هنا يكاد يكون وسيلة سفر خاصة بالمسافرين الأجانب فقط. حين صعدت القطار وجلست كان مهاجر أفريقي في الكرسي المقابل لي يرفع هاتفه ليكلم زميل له في مكان ما، وحين ارتفعت يده حاملة التلفون لمحت خاتما صحراويا في إصبعه. كان خاتما من ذات الخواتم التي يضرب عليها الصناع الصحراويين العلم الصحراوي والتي كانت توزع على الأجانب كهدايا وصارت تباع لهم الآن. ودققت النظر فكان الخاتم فعلا خاتما من خواتمنا التي نعرف وتحمل علمنا. ظننت أنه موريتاني فكلمته بالحسانية ففهمني وقال لي انه يتكلم العربية لكنه ليس موريتاني وإنما سنغالي. وتعجبت كيف وصل الخاتم إليه بحكم البعد الجغرافي بيننا معهم وعلاقتنا الباردة ببلدهم. وسألته عن من أعطاه الخاتم فكانت الحكاية الغربية والعجيبة.الرجل أسمه علي آدم وهو مثقف ومطلع يتكلم الفرنسية والعربية بلكنة إفريقية لكنها مفهومة في غالبيتها. كان من المهاجرين الذين رماهم المغاربة ذات يوم في الصحراء حذاء الحزام الرملي ليموتوا فأنقذهم الجيش الصحراوي. قلت له أنني صحراوي فوقف من الكرسي كي يصافحني بحرارة ويبتسم لي بانشراح. نزلنا من القطار دون إن يكمل لي روايته عن لقائه بالبوليزاريو، فطلبت منه أن نذهب إلى مقهى ليكمل لي القصة. جلس معي يتحدث لي عن كيف كان اللقاء مع الصحراويين. وجدت كلمة viva F.POLISARIO مكتوبة في كهف ...فبعد حكاية طويلة عن رحلة أطول من قرية صغيرة على شاطئ نهر السنغال وصل إلى المغرب كي يرمي نفسه في البحر طالبا المال في أسبانيا. وحين يستطرد يقول:" كنت أعرف أن الذهاب إلى أسبانيا صعب جدا ودونه الموت، لكن لم تكن باليد حيلة وكان لا مفر من المغامرة الفاشلة دائما بنسبة 70%. ...في قريتنا كنا شبه موتى وكان الناس يموتون من الجوع، لا مال ولا عمل ولا غذاء للأطفال وتلك مأساة حقيقية لا يمكن لذي لب أن ينام معها دقيقة واحدة. كان معي ثلاثة، لكن الذين اتصلوا بنا من المغاربة لتهريبنا إلى أسبانيا اشترطوا على كل واحد 1600 يورو لتوفير المركب فقط دون سائق وعلينا البحث إن سائق ليعطيه كل واحد 500 يورو من كل الركاب، وقالوا لنا أنهم يعرفون بعض السواق وسيتحدثون معهم في الموضوع ولا بد أن يقبل احدهم قيادة المركب والمغامرة. كنا نتحدث معهم بالفرنسية، ورغم أنني كنت افهم العربية إلا أنني رفضت الحديث معهم بها وادعيت عدم معرفتها. كان العرض بدون ضمانات، ورفضوا حتى إعطائنا أسمائهم، فهم على ما يبدو أثرياء أو شخصيات مهمة وكانوا لا يزوروننا إلا في الليل. ذهبوا بنا في سيارات اندروفير إلى وادي كبير في الصحراء الغربية وتركونا في بعض الكهوف والدشم في ذلك الوادي. في إحدى هذه الكهوف كانت هناك كلمة قديمة تكاد لا تقرأ مكتوبة على الجدار الداخلي باللاتينية هي viva F. POLISARIO . حفظت الكلمة لطول المدة التي قضيناها في ذلك الوادي، لكن لم أعرف ما تعني. كنا ننتظر ولا نعرف متى سنرحل، وفي إحدى الليالي زارنا مهربو البشر الذين أتوا بنا إلى الوادي. كان قائدهم غاضبا جدا، وكان يتحدث في التلفون بالعربية مع أحد ما ففهمت أنهم لا زالوا ينتظرون خشب المركب الذي سيأتي من مكان ما اسمه "الداخلة" على ما أظن، وبعد ذلك سيتم تركيب المركب في المكان الذي نقلونا إليه في تلك الصحراء الخالية. وحين تمت الترتيبات سلمنا لهم المبلغ الذي طلبوا منا وحملونا في سيارات اندروفير إلى الشاطئ في ظلمة ما قبل الليل. ركبنا في الظلمة وكنا حوالي 20 كلنا من السنغال ومالي، لكن حين تحرك المركب في البحر لمسافة قصيرة فاجأتنا أضواء قوارب قريبة منا تطلب منا التوقف. كانت قوارب رجال محاربة الهجرة السرية، تأكدنا أننا وقعنا في فخ، وأننا خسرنا المال وضاع الحلم وتبدد كالسراب. اثنان من المهربين عرفنا أنهم من بين رجال الدرك..وحشرونا في حوش كبير في الليل وهنا تعرضنا للضرب والسب والشتم، وقاموا بسلب منا كل ما نملك من نقود وساعات وأشياء شخصية. في الصباح قاموا بالتقاط صور مباشرة وجانبية لنا وأخذوا بصماتنا وسجلوا أسماءنا وبلداننا وأعادونا إلى الحوش الكبير مرة أخرى في إحدى المدن. لم يكن سائق المركب بيننا، ذهبوا به إلى جهة أخرى بعد القبض علينا مباشرة في الليل. في المركز الذي نقلونا إليه للتصوير شاهدنا من وراء الزجاج اثنين من الذين كانوا يزوروننا في الوادي للإشراف على تهريبنا وأحدهم هو الذي تسلم المبلغ المالي من كل واحد منا... ولم نعرف هل كانا من المتعاونين مع الدرك الذي ألقى علينا القبض أم كانا عنصرين منه. والخلاصة أنهم تسلموا منا المال ووشوا بنا كي يحصلوا على المال المتبقي معنا. إنهم يعرفون أن كل مهاجر سري يجمع قبل هجرته كل ما يستطيع من مال، يبيع أملاكه وجواهر نسائه وأمه حتى يحصل على المبلغ المطلوب لإيجار المركب وما يكفيه للعيش في أسبانيا عدة شهور في حال وصوله سالما. أنا مثلا كنا أحمل معي 3000 دولار و1000 يورو. لم اعد بأي شيء على الإطلاق. رمونا في الصحراء مثل أكياس القمامة... كانوا بكل تأكيد يريدونا قتلنا ..حين سلبونا المال والحلم وكل شيء حملونا في شاحنات كبيرة للدرك في الليل ورمونا في صحراء خالية صامتة لا يكاد المرء يسمع فيها أي صوت. كان المناخ قاسيا تلك الليلة التي رمونا فيها في الصحراء بعيدا عن أي أثر للحياة. كانوا يرمونا مجموعة منا في مكان ثم يذهبون إلى مكان أخر ويرمون مجموعة أخرى، أحيانا تتكون المجموعة من ثلاثة وأحيانا أخرى من اثنين وفي مرات عديدة واحد. كانوا يرمون الشخص على الأرض مثلما يرمون كيس القمامة، يرمونه والسيارة تسير دون أن تتوقف فيسقط على الأحراش والأرض الصلبة. في الصباح اكتشفنا أننا في مكان بعيد عن المدن والحياة وأننا في صحراء موحشة. لقد أرادوا قتلنا بكل تأكيد وبلغت بهم الخسة أنهم كانوا يرموننا في ذلك المكان الخالي بدون ماء ولا غذاء. لم أكن أتصور في حياتي أنه يمكن أن توجد دولة على وجه الأرض قادرة على رمي البشر للموت في الصحاري دون ماء وغذاء. وجدنا البوليزاريو... أنقذونا من الموتتهنا في الصحراء القاسية بحثا عن الماء والحياة ونحن في غاية الإنهاك. كنا نمشي في اتجاهات مختلفة دون ان نعرف إلى أين نحن ذاهبون. كنا مجموعة تتكون من أربعة، وحين دقت الساعة الثالثة تقريبا في المساء كان العطش قد بدأ يؤثر على رؤيتنا وحركاتنا وخفتت أصواتنا. بدأنا نفكر أنه إذا لم نجد أحدا في المساء سنموت من العطش. كان الجو جافا وحارا ويمتص السوائل من الجسد بسرعة فرحنا نيبس ونجف مع مرور كل ساعة. بدأ الموت يتراقص أمام أعيننا، بدأ البعض يبكي، وسقط أحدنا مغميا عليه ولم يعد قادرا على السير. تركناه تحت ظل شجرة وواصلنا سيرنا. حين يصبح الموت عطشا قريبا منك وتحسه ينعدم فيك الإحساس والشفقة ولم يعد يؤثر فيك أي منظر محزن مثير للشفقة. نمنا في الليل في العراء وفي الصباح تهنا من جديد، وحين لم نعد نميز بين الأشياء رمى القدر في طريقنا سيارة اندروفير ذاهبة إلى مكان ما. توقفوا وبدأوا يسقوننا ويرشوننا ويعالجون جراحنا. عادت الحياة إلى أجسادنا وأرواحنا فصرنا نسمع كلامهم ونفكر. أنا مثلا أول ما فكرت فيه بعد أن شربت هو زميلنا الذي تركناه تحت الشجرة والذي لا بد أن يكون قد مات عطشا. ظننا أنهم موريتانيون فهم يتكلمون نفس اللغة التي نعرف في موريتانيا ويتشابهون في الشكل واللون. ظننا إن المغاربة رمونا في صحراء موريتانيا قرب بلدنا السنغال. حين أفقنا من الغيبوبة قال لنا احدهم بالفرنسية أنهم صحراوين من البوليزاريو. تذكرت كلمة viva POLISARIO التي وجدنا محفورة في الكهف الذي كنا نسكن فيه في انتظار التهريب. كان احد الرجال الثلاثة في السيارة اسمه إبراهيم وحين كان يعد لنا بعض الأكل سقط هذا الخاتم من ملابسه فالتقطته وأعدته إليه فقال لي ضاحكا: خذه إنه هدية من البوليزاريو . هذا المرسوم عليه هو علمنا. " وضحك.بقى الخاتم معي إكراما لذلك الرجل وأتمنى أن يبقى معي مدة طويلة. ولم نكن من تم إنقاذنا وحدنا، فحين علم رجال البوليزاريو الشرفاء بما حدث لنا ذهبوا يبحثون عنا وحتى المواطنين البسطاء شاركوا في العملية وتمكنوا من إنقاذ الكثير منا. كان أولئك الرجال الشرفاء الذين لا يملكون أشياء كثيرة أشهم من عرفت في حياتي من الرجال. وجدت نفسي وجها لوجه مع حركة البوليزاريو التي عرفت منهم أنها تطالب بتحرير الصحراء الغربية وأن اسمها المحفور في الكهف الذي كنا نسكن فيه كان فال خير علينا. قدموا لنا كل ما يملكون واستدعوا الصحافة والأمم المتحدة كي تنقل مأساتنا إلى العالم الخارجي في ذلك المكان الصحراوي المفعم بالرجولة والشهامة التي أصبحت نادرة في عالمنا المجنون الذي نعيش فيه.ونجحت المغامرة أخيرا.عدنا إلى بلداننا وحكينا على أهلنا مغامرتنا الفاشلة فحمدوا الله على سلامتنا. قال لنا الحكماء منهم أن السلامة والصحة كنز، لكن بعد أيام عاد الفقر من جديد يحثنا على المغامرة فإما النجاة أو الموت لأن حياتنا في البلد ليست حياة. جمعت من جديد بعض المال لكن هذه المرة قررت أن لا أطلع أحدا على المغامرة. سلكت نفس الطريق المضني من جديد حتى وصلت إلى المغرب. بدأت أتحرى سريا بحثا عن منظمي الهجرة السرية. وقعت في نفس الشبكة القديمة التي وقعت في فخها في المرة الأولى دون أن اعلم. ذهبوا بنا في الليل إلى نفس المكان الذي كنا فيه قبل رحلتنا الفاشلة. سكنت في ذات الكهف الذي كُتبت في داخله كلمة viva POLISARIO. الآن الكلمة غير مبهمة بالنسبة لي. أعرفها وأحبها ولن أنسى طول عمري أنهم أنقذوا حياتي وحياة أطفالي. أخبرت المجموعة التي وجدت أمامي بما حصل لنا في المرة السابقة فهربنا في الليل وبحثنا عن مجموعة تهريب أخرى حتى لا يحصل لنا نفس المصير السابق . عثرنا على مجموعة جديدة وسافرنا في مركب تهريب أخر إلى كناريا ووصلنا سالمين وها أنا هنا.انتهت حكاية علي أدم وذهب حاملا حقيبته الصغيرة على كتفه بحثا عن حقل يقطف منه الثمار قرب المدينة التي نسكن فيها في كاتلونيا أين يكثر المهاجرون بدون وثائق في الصيف بحثا عن عمل سري في الحقول. ذهب وهو معتز تمام الاعتزاز بلقاء البوليزاريو وبمعرفتها، ويحلف أنه لن ينسى جميلها ..sidhamdi@yahoo.fr
No comments:
Post a Comment